اللقاء الفلسفي
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.


 
الرئيسيةالتسجيلأحدث الصوردخول
مرحبا بكم في منتدى الفلسفة المحكمة
لكل استفساراتكم يمكنكم الاتصال بالبريد الالكتروني الخاص بالمنتدى: oranphilosophie@yahoo.fr
ازرار التصفُّح
 البوابة
 الرئيسية
 قائمة الاعضاء
 البيانات الشخصية
 س .و .ج
 بحـث
بحـث
 
 

نتائج البحث
 
Rechercher بحث متقدم
Like/Tweet/+1
سحابة الكلمات الدلالية
المواضيع الأخيرة
» نصر حامد أبو زيد
من العقـل الكيفي إلى العقـل الكمّـي I_icon_minitimeالخميس فبراير 28, 2013 5:56 pm من طرف بن يمينة كريم محمد

» يوم دراسي حول الفلسفة و العلم (جدل الفلسفة و ثورة العلم)
من العقـل الكيفي إلى العقـل الكمّـي I_icon_minitimeالسبت يناير 26, 2013 3:03 am من طرف بن يمينة كريم محمد

» الملتقى الوطني الثاني حول إشكالية التقويم و أساليبه في منظور التكوين الجامعي في ظل نظام LMD
من العقـل الكيفي إلى العقـل الكمّـي I_icon_minitimeالأحد يناير 20, 2013 8:37 pm من طرف بن يمينة كريم محمد

» منتديات قسم العلوم الإجتماعية جامعة د.مولاي الطاهر -سعيدة- شعبة الفلسفة
من العقـل الكيفي إلى العقـل الكمّـي I_icon_minitimeالخميس يناير 03, 2013 10:09 pm من طرف بن يمينة كريم محمد

» ملتقى الأدب الإصلاحي: الأفكار والأشياء 03/04 أبريل 2013 مخبر الحركة النقدية في كلية الآداب واللغات- قسم الأدب العربي: جامعة د. الطاهر مولاي: سعيدة – الجزائر
من العقـل الكيفي إلى العقـل الكمّـي I_icon_minitimeالخميس يناير 03, 2013 10:05 pm من طرف بن يمينة كريم محمد

» الملتقى الدولي الثاني حول حوارات في الدين واللغة يومي 15 و 16 أفريل 2013
من العقـل الكيفي إلى العقـل الكمّـي I_icon_minitimeالخميس يناير 03, 2013 10:02 pm من طرف بن يمينة كريم محمد

» ملتقى وطني حول المعالجة الآلية للغة العربية - واقع وآفاق - يومي 06/07 جمادى الأولى 1434 هـ الموافق 18/19 مارس 2013.
من العقـل الكيفي إلى العقـل الكمّـي I_icon_minitimeالخميس يناير 03, 2013 10:00 pm من طرف بن يمينة كريم محمد

» جائزة عبد الحميد شومان للباحثين العرب الشبان
من العقـل الكيفي إلى العقـل الكمّـي I_icon_minitimeالأحد أكتوبر 23, 2011 11:44 pm من طرف بن يمينة كريم محمد

» Colloque National :Les langues dans l’espace familial algérien
من العقـل الكيفي إلى العقـل الكمّـي I_icon_minitimeالثلاثاء سبتمبر 27, 2011 7:11 pm من طرف بن يمينة كريم محمد

Like/Tweet/+1
المتواجدون الآن ؟
ككل هناك 1 عُضو حالياً في هذا المنتدى :: 0 عضو مُسجل, 0 عُضو مُختفي و 1 زائر

لا أحد

أكبر عدد للأعضاء المتواجدين في هذا المنتدى في نفس الوقت كان 21 بتاريخ الإثنين يونيو 08, 2020 10:32 am
دخول
اسم العضو:
كلمة السر:
ادخلني بشكل آلي عند زيارتي مرة اخرى: 
:: لقد نسيت كلمة السر
أفضل 10 أعضاء في هذا المنتدى
بن يمينة كريم محمد - 74
من العقـل الكيفي إلى العقـل الكمّـي I_vote_rcapمن العقـل الكيفي إلى العقـل الكمّـي I_voting_barمن العقـل الكيفي إلى العقـل الكمّـي I_vote_lcap 

 

 من العقـل الكيفي إلى العقـل الكمّـي

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
بن يمينة كريم محمد
Admin



عدد المساهمات : 74
تاريخ التسجيل : 08/08/2011
العمر : 56

من العقـل الكيفي إلى العقـل الكمّـي Empty
مُساهمةموضوع: من العقـل الكيفي إلى العقـل الكمّـي   من العقـل الكيفي إلى العقـل الكمّـي I_icon_minitimeالخميس أغسطس 18, 2011 5:49 pm

من العقـل الكيفي إلى العقـل الكمّـي
محمد المصباحي

« إذا ارتفعت طبيعة الواحد ارتفعت طبيعة الموجود، وإذا ارتفعت طبيعة الموجود لزم العدم » ابن رشد، تهافت التهافت.

«ما كان مبدأ وجود فهو مبدأ عدد، وما كان مبدأ عدد فهو مبدأ وجود» ابن رشد، تفسير ما بعد الطبيعة.

بعد أن أصيب العقل في صميمه جراء النقد العنيف الذي وجهته له فلسفات ما بعد الحداثة، التي أعلنت عن تهافته وموته بصيغ عديدة وعبر جهات نظر مختلفة، اتجه التفكير الفلسفي نحو تقاليد الرومانطيقية والصوفية التي ترجع بأصولها إلى فكر الواحد والوحدة من اجل أن يجدد نظرته إلى الموجود. وموازاة لذلك، شهدت الحضارة البشرية هيمنة « ثقافة الواحد« على كل جوانب المعرفة والوجود الإنساني، هذه الثقافة التي وصلت إلى أوجها فيما أصطلح عليه بعلوم المعلوميات التي فتحت عهدا جديدا كل الجدة في تاريخ الإنسانية. ومن الواضح أن ثقافة المعلوميات هي أقرب إلى فكر النسبة والتناسب منها إلى فكر التطابق والهوية، واقرب إلى فكر الواحد منه إلى فكر الجوهر. وهذا ما أكسبها قدرة أعظم على الإبداع والتطور. ففي المعلوميات تبتكر الذات موضوعها من ألفه إلى يائه، تقتطعه من مقولة الكم لتصوغ منه عوالم لانهائية، تنطق بمقولات صار عددها لا يُحصى، ومضمونها ومجالات تطبيقها مفتوحة على كل الاحتمالات.

لقد اعتدنا فيما مضى من الزمن أن نقول بأن الحضارة التي لا تهتدي بنور العقل حضارة عاطلة. أما الآن فبوسعنا أن نزعم بأن الحضارة التي لا تكيل الموجود ولا تعدّ الأشياء، الحضارة التي لا تحسب الزمن ولا تقيس المصير حضارة لا يُعوَّل عليها. وأساس العد ومبدؤه هو الواحد. لكن ركوب مركب الواحد قد يقود إلى ملاقاة المطلق، وذوبان الفراشة في لهيب الشمعة، كما قد يفضي إلى حضارة الحاسوب والعوالم اللانهائية للعدد والصورة.

إننا حينما نكمّم الأشياء ونكيلها نحوّلها إلى علاقات ونِسب مقدَّرة بمكيالنا الذي صُغناه بعقلنا أو اصطلحنا عليه بإجماعنا، فنَعرفها ونتواصل معها من أجل إبداع نسب وعلاقات وأشياء جديدة. لم يعد العقل اليوم يكتفي بتحويل الموجودات الغُفل، العارية عن المعنى، إلى كائنات ممتلئة بالدلالة وبالقوانين وباللغة، إلى كائنات تبوح لنا بأسرارها من أجل التواصل معها، أي لم يعد العقل يقنع بتحويل « الموجود بما هو موجود« إلى « موجود بما هو إنسان «، بل صار يطمع في خلق موجودات جديدة وعلاقات ونسب لم يكن للإنسان عهد بها، ولا كانت في الحسبان. ومن هنا نفهم مصداق ما ردّده ابن رشد من أن الواحد مبدأ عدد ووجود معاً. اكثر من ذلك، لو سلمنا بان الواحد كائن تبتدعه النفس، لصار بإمكاننا إن ندعي بأن القوْلين المأثورين عن الفيثاغوريين والسفسطائيين – بان « العدد يحكم العالم »، وبان « الإنسان مقياس كل شئ » – لهما نفس المعنى الواحد، طالما أن الإنسان هو الذي يصنع مبدأ الأعداد ويؤلف مكيال الموجودات. هكذا يصبح العلم والموجود رهينين بالكم، مادام العدّ والكيل ينتميان إلى مجاله. وهذا معناه أن ميزان القوى بين المقولات مَال في هذا الزمن لصالح مقولة الكم على حساب مقولة الجوهر في مضمار اقتحام لجة الكون وإعادة صياغته والتفكير فيه، بعد أن انعقدت السيادة لمقولة الجوهر زمنا طويلا منذ أفلاطون إلى جاليلو ونيوتن. وقد تبلور هذا التغير في ميزان القوى بين المقولات في إعطاء الحضارة المعاصرة الأسبقية للأعداد على الجواهر، وللرياضيات على علم الطبيعة، فتم إنقاذ العلم من الطابع الكيفي والماهوي الذي سيطر عليه منذ أرسطو. كما تبلور هذا التغير في إيلاء الأسبقية للذات على الموضوع، وتخويلها القدرة على المبادرة والتشريع للوجود، مما يدل على أن الإنسان لم يعد يقنع بالتفسير والتأويل بل أضحى يرنو إلى التغيير، لكن هذه المرة لا على مستوى التاريخ، بل على مستوى الوجود. إننا نعتقد أن التفكير في العالم من خلال الواحد، وبالتالي من خلال مقولة الكم، من شأنه أن ينتج نظرة ذاتية للعالم.

*****

ان التوجه الذي تتخذه أية نظرية طبيعية أو منطقية أو معرفية أو عقلية أو أونطولوجية أو ميتافيزيقية لدى أيِّ فيلسوف، رهين بتبني ضرب معيّن من الوحدة يؤسس كلامه عليها. إن البحث في شروط إمكان خطاب العقل عن الوجود يقود لا محالة إلى البحث في شروط إمكان الموجود ذاته، أي النظر إليه من خلال الواحد. لكن ليس معنى هذا أننا نريد هنا أن نثبت أن فلسفة أبي الوليد فلسفة أحدية. فقد برهن فشل لقائه الخاطف والماكر مع ابن عربي على استحالة الكلام عن تواصل بين الفكر العَدْل والمتوازن بين الواحد والموجود، والفكر المتعطش للوحدة، العاشق لخرق العادة، الكاسر لميزان العقل والحكمة. بل إن كل ما نقصده هو أن نبرز دور الواحد والوحدة في بناء الأقوال التي صدرت عن ابن رشد او انتصر لها، لا على نحو كيفي وماهوي وحسب، بل وأيضا على نحو كمي.

لقد كانت مسألة الوحدة هي المسألة الأخفى في فلسفة الرجل. فمن جهة، لم يُعن بها العناية الكافية التي تؤهله لأن يُخرج عناصر إشكاليتها المنبثة في كتاباته وصياغتها في نظرية متكاملة، أو متابعة مسائلها بين الحين والآخر كما فعل مع نظرية العقل أو نظرية البرهان، حيث كتب بشأنهما عدة جوامع وتلاخيص ومقالات وشروح. ومن جهة أخرى، لم يطرح أبو الوليد بشأن الوحدة سؤالا خاصا بها، بالرغم من أنها كانت هي الخلفية التي تقف وراء كل الأسئلة الهامة التي أثارها في مختلف مباحث الفلسفة الأولى والثانية. فنحن نعرف أن الفلسفة كانت نتيجة ثلاثة أسئلة كبرى: السؤال الأهم على الإطلاق وهو « ما هو الموجود ؟ »، والسؤال الأخفى على الإطلاق وهو « ما هو الجوهر؟ »، ثم السؤال الأشرف على الإطلاق وهو « ما علة الموجود؟ ». ولعل الوجود المتواري للوحدة في خلفية هذه الأسئلة الكبرى هو الذي أخفى السؤال عنها، أو قل إن خفاءها هذا هو أسلوب وجودها الفعلي.

ومع ذلك، أي على الرغم من خفاء سؤال الوحدة، فقد كانت آلياتها هي الوسائل الفعالة التي التمسها ابن رشد في بناء المواقف، ومعالجة الصعوبات الفلسفية الأساسية. ومن بين أهم آليات الوحدة آليتا تفصيل دلالة الأسماء، والفصل بين الأقوال والمقالات. فتفصيل دلالة الموجود والواحد إلى مقولات أو معان مختلفة في منزلتها من معنى متقدم فيها هو الذي أخرجه من مأزقي الوحدة/الكثرة، والهوية/المغايرة ؛ وتقسيم الجوهر إلى مبدأين اثنين هما الصورة والمادة هو الذي مكّنه من تجاوز التقابل بين الماهية الموجودة والماهية المقولة، والتمييز بين العلة الفاعلة من جهة والعلتين الصورية والغائية هو الذي اخرج الفلسفة من مأزق علاقة الوحدة المتعالية بالكثرة الطبيعية والمفارقة. ومن الواضح أن أجناس القسمة المذكورة هي وسائل لإيجاد أصناف ملائمة للنسبة والوحدة بين المستويات المتباينة للموجود. كما أن آلية الحكم العدل بين المقالات المتضاربة تمكّنه من إبداع مقال جديد يتجاوز به التأويلات المتقابلة. لكننا يجب أن نسارع إلى القول بأن الوحدة ليست فقط أداة لحل الصعوبات ووسيلة للإجابة على الشكوك والإشكالات، بل وأيضا موضوعا للنظر الفلسفي ولصناعة خطابه.

*****

وقد امتدت آلية التقسيم الدلالي إلى الواحدَ نفسَه، فانقسم إلى أنواع وأجناس، تقوم بوظائف الإيجاد والتحريك والتقسيم الخ. وقد نص ابن رشد على أن واجب إحصاء معاني الواحد وتعريفها من اهم واجبات الفيلسوف، إذ هي التي تسمح لنا بفهم سرّ وحدة وتعدد الموجود والحركة والمعرفة. فبدون معرفة الفرق بين الواحد بالعدد والواحد بالصورة وبالنوع والواحد بالجنس والواحد بالاضافة، لا نستطيع أن نفهم ابن رشد عندما كان يحلل ويفسر الوحدة الوجودية والماهوية والتكوينية والعرضية والضدية والمتعالية. وموازاة لذلك لو أخذنا الواحد بمعنى واحد لما امكننا أن نميز بين الواحد المرادف للموجود، والواحد المؤسس للماهية، والواحد المكيال، والواحد الباعث على الاختلاف والمغايرة والتقابل ؛ ولما استطعنا أن نفرّق بين الوحدة المتعالية، علة الحركة والوجود والحفظ، والوحدة السالبة، علة التضاد والتغير، والوحدة الايجابية التي تقوم بفعل الربط والجمع ؛ كما لو أخذنا الواحد بمعنى واحد لما أمكننا أن نَفْصِل بين الوحدة الواصلة كالوحدة المقولية والجنسية والنوعية، والوحدة الفاصلة التي تحدث التحديد والاختلاف والمغايرة والتضاد، كالوحدة العددية والوحدة الضدية والوحدة الصورية. ولو تأملنا أسباب اختلاف الأسماء الكبرى التي يستعملها صاحب الفلسفة، كالجوهر والصورة والمعنى والسبب والأنية والهوية والموجود، لوجدناها راجعة إلى اختلاف أوجه الوحدة التي تقوم عليها، وإلا فإنها في عمقها تعبر عن نفس الشيء الواحد بأنحاء مختلفة.

لكن بالرغم من تقسيم العمل هذا بين أنواع الواحد حيال مجالات الموجود المختلفة، فقد بدا لنا أن «الواحد بالعدد » و« الواحد بالنسبة » كانا يتنافسان على الهيمنة على تلك المجالات. فـ« الواحد بالعدد » هو الأصل الأول لكل ضروب الوحدة وأنحائها، وهو المكيال الأول لكل الموجودات، وهو علة تفرد الكائنات المفارقة والطبيعية على السواء. لكنه بسبب فرديته وطابعه الانفصالي لا يستطيع أن يفسر الوجه العلائقي من الموجود. ولذلك كان لا بد للموجود من « الواحد بالنسبة » باعتباره الإطار العام الذي تتناسل فيه مختلف الوحدات، وتحدث فيه كل الروابط والعلاقات والنسب والتقابلات والأنظمة لإنتاج الأشياء وإخراجها إلى حيز الوجود، وتفسير علاقة الواحد الأول بالعقول المفارقة، وتنظيم العلاقة فيما بين هذه الأخيرة، والعلاقة بين العقول المفارقة والأجرام السماوية، والعلاقة بين الأجرام السماوية وجواهر عالم الكون والفساد، هذا علاوة على هيمنته على نظام المقولات العشر.

ونجد لدى ابن رشد نفس التردد بين « الواحد بالعدد » و« الواحد بالصورة » عندما كان بصدد تعيين الواحد الأول والمتقدم بين معاني الواحد الخمسة أو الستة، والبث في طبيعة العلاقة بينها. فأحيانا كان يعطي الأولية « للواحد بالعدد » نظرا لبساطته ومكياليته على مستوى الكم، وأحيانا نجده ينص على أن « الواحد بالصورة » هو الأحق بالتقدم والأولية نظرا لبساطته أيضا على مستوى النوع والماهية. وهذا التردد يدل على وجود تنافس بين الرؤية العددية والوحدوية والرؤية الصورية والجوهرية في فكر ابن رشد، وإن كان يعبر عن ميل واضح نحو الرؤية الأولى بحكم أرسطيته المتشددة. لكن، سواء كان الواحد الأول هو « الواحد بالعدد » أو « الواحد بالصورة »، فان طبيعة العلاقة بين معاني الواحد هي نفسها التي توجد بين مقولات الموجود العشر، وهي علاقة النسبة والتبعية إلى واحد أول.

وقد يبدو للناظر في أنحاء الوحدة داخل الشيء الواحد أو داخل البنية الواحدة أن كل وحدة لاحقة تنفي سابقتَها، لأنها في الغالب قائمة على مبدأ مضاد لها. ولكن الأمر ليس كذلك، لأن كل وحدة تؤثر بجهتها الخاصة، مما يجعل حال أنحاء الوحدة كحال المقولات، التي بالرغم من أن الاختلاف فيما بينها وصل إلى درجة المغايرة، فإنها لا تتمانع ولا تتنافى، بل يمكن أن تتعايش في نفس الموجود الواحد. فالشيء الواحد تتضافر في إيجاده الوحدة العددية المفارقة، والوحدة الجنسية، والوحدة النوعية، والوحدة العددية، والوحدة التكوينية والضدية الخ، أي أنه يمكن أن تتراكم في الموجود الواحد كل هذه الوحدات، دون أن يفقد وحدته الذاتية.

***

وننتقل إلى الوحدة الثانية التي كان يقول بها ابن رشد – ولعلها الأولى بمقتضى الترتيب الأونطولوجي – وهي وحدة التلازم والمساوقة والترادف بين الواحد والموجود، ومعناها أن ما يدل عليه الواحد يدل عليه الموجود، والعكس. وقد أدى القول بالمساوقة بابن رشد إلى أطروحة وحدوية أخرى هي أطروحة ذاتية الواحد بالنسبة للأشياء، هذه الذاتية التي يمكن ترجمتها بخلو الواحد من المعنى، فلا هو منحاز بذاته على هيأة جوهر مستقل عن الأشياء (الفيثاغوريون)، ولا هو مضاف إلى غيره من باب الزيادة والعرضية (ابن سينا)، بل إن الواحد في نظر ابن رشد أمر ذاتي بالنسبة للأشياء المحمول عليها. وقد رفض أبو الوليد مذهبي جوهرية الواحد وعرضيته لأنهما يؤديان إما إلى القول بوحدة مطلقة تلغي كل إمكانية للكلام عن الطبيعة وتمنع كل مخاطبة ومقاولة وتواصل بين الناس، وإما إلى فصل الشيء عن أنّيته وحقيقته، مما يجعل الكلام عن العلم بالشيء مستحيلة.

وقد أدى القول بالترادف والتساوق بين الواحد والموجود إلى الحيلولة دون طرد الواحد من دائرة الموجود وإعلان الطلاق البائن بينهما. هكذا يكون ابن رشد قد رفض أن يهجر غنى الأونطولوجيا إلى قفر الإينولوجيا، أو الذهاب بعيدا في مغامرات الإينوتيولوجيا (واعني بها التصوف الصرف)، أو الانخراط في حجاج وجدل توحيد المتكلمين. ومن ثم يكون ابن رشد في نفس الوقت قد جنّب الأونطولوجيا الخضوع للإينولوجيا، وأنقذ الفلسفة من الانقياد لعلم الكلام (التيولوجيا). ونحن نذهب إلى القول بأن المساوقة بين الواحد والموجود كان احد أسباب فشل اللقاء التاريخي-الميتافيزيقي بين ابن رشد وابن عربي.

وبوسعنا أن نزعم بأن القول بعدم أصالة أحد المتعاليين – الواحد أو الموجود – قد انعكس على التوازن بين « علم الموجود بما هو موجود » وعلم « الواحد بما هو واحد ». فإذا كانت مهمة العلم الأول هي تحصيل وتحديد وإثبات المضمون الواقعي والعقلي والماهوي للأشياء، فستكون غاية علم « الواحد بما هو واحد » هو النظر في مجال المكيال والعلاقة والنسبة والحركة. ومع ذلك فان دعوى التساوق والتلازم بين الموجود والواحد تقتضي تداخل وظائف العلمين في كثير من الأحيان، أقصد تبادل الأدوار بينهما.

ومما يعزز القول بتكافؤ الدلالة بين الواحد والموجود أننا نجد وضعا مشابها بين مقولات الموجود لمــا وجدناه بين مقولات الواحد. فعلى غرار تنافس « الواحد بالعدد » و« الواحد بالنسبة » على تفسير مجالات الموجود المتباينة والهيمنة عليها، تقوم منافسة بين مقولتين وجوديتين تناظران جنسي الواحد سابقي الذكر: إحداهما تُعد أقوى المقولات، وهي مقولة الجوهر، والثانية أضعفها، وهي مقولة الإضافة. فالجوهر في الفلسفة الرشدية هو الذي له الحد والماهية، وعليه تحمل باقي المقولات وتستمد منه وجودها وعلّيتها وبقاءها، لأن له القيام بالذات دون غيره من الأعراض، ولذلك اعتُبر البحث عن ماهية الجوهر غاية الفلسفة القصوى. ولكن لو بحثنا في البنية العميقة للجوهر لوجدناها هي الأخرى وليدة علاقة إضافية بين المادة والصورة، والفاعل والمنفعل ؛ وبما أن وجود الجوهر نفسه وليد إضافته ونسبته إلى المبدأ الأول، فانه قد تجنح بنا الرغبة في التأويل إلى القول بأن الجوهر نفسه تابع بجهة ما لمقولة الإضافة. فإذا اختل التوازن حقاً بين مقولتي الجوهر والإضافة لصالح هذه الأخيرة، جاز لنا أن نظن أن ابن رشد كان اقرب إلى الأشاعرة منه إلى أرسطو.

بيد أن ما بين أيدينا من البيّنات يمنعنا من مجاراة هذه الخاطرة السريعة، ويكفينا دليلاً على فساد القول بأسبقية الإضافة على الجوهر ذلك التنازع الخفي بين المقولات والمفارِقات (العقول السماوية) في السيطرة على تفسير مجالات الموجود. فنحن نعلم أن المقولات هي التي تنظم الموجود بما هو موجود، أي عالم الموجود الحسي المشار إليه، بينما تنظم « المفارقات» عالم السماء بأجرامه ونفوسه وحركاته. إلا أننا نلاحظ وجود ميل قوي لدى ابن رشد لإخضاع المقولات بجوهرها وأعراضها لسيادة الجواهر المفارقة، بحكم قرب هذه الأخيرة من المبدأ الأول. ومعنى ذلك أن عالم الجواهر الحسية بات خاضعا للجواهر العقلية، مما يعني أن هذه الأخيرة لم تعد سقفا نظريا ينتهي عنده تصورنا للموجود كيما ينقطع التسلسل المنطقي عنده، بل بات اكثر امتلاءاً بالجوهرية والوجود من الموجود نفسه. لكن ليس معنى هذا أنه كلما قلّت الوحدة والنظام ظهر الموجود والصيرورة كما تقول الأفلاطونية المحدثة، وإنما معناه أن هناك أجناسا من الوحدة، كل واحدة منها تختص بوظيفة وبمجال يختلف عن وظائف ومجالات الوحدات الأخرى.

وللتلازم مظهر آخر هو المظهر التقابلي، والذي نلفيه هذه المرة بين الوحدة والكثرة، وهو التلازم الذي يترتب عنه الاختلاف والمغايرة، وهو الذي يؤدي إلى امتلاء الموجود بالمعنى لا استبعاده منه كما كأن الحال بين تلازم المساوقة بين الواحد والموجود. فلا يخفى أن تلازم الوحدة والكثرة هو من باب التقابل لا من باب الترادف، ولذلك لم تكن علاقة التلازم التقابلي بين الوحدة والكثرة ذات طبيعة انعكاسية كالتلازم الترادفي بين الواحد والموجود، فليس كل كثير واحدا وكل واحد كثيرا، بالمعنى الذي نقول به عن علاقة الواحد بالموجود. ومع ذلك فان الوحدة لا تنفصل عن الكثرة والعكس صحيح، وهذا ما يقتضي منّا أن لا ننظر إلى الأشياء نظرة واحدة، أومن خلال ضرب واحد من ضروب الوحدة، لأن الوحدة الواحدة مهما كانت مرونتها وشموليتها وقوة نفوذها في كل الأشياء، فهي غير قادرة على الإحاطة بأنظمة الوجود المختلفة المتساكنة في جوف الشيء الواحد. فالموجود واحد، لكنه ينعكس على مرايا لا متناهية، فيتعدد بتعددها، ويختلف باختلاف زوايا النظر إليها، فكما يقول ابن عربي «كل مشهد لا يريك الكثرة في العين الواحدة لا تعوّل عليه».

***

ونتبيّن لنا مما سبق بأن الوحدة لا يمكن أن تكون جوهرا قائما بذاته في الخارج، وإنما هي كل الوحدات أو الأشياء الواحدة، إذا نظرنا إليها من زاوية مرادفتها للموجود ؛ ولكن الوحدة هي أيضا اصغر مقدار في اي مجال من مجالات الوجود والمعرفة والعقل ؛ ومن هنا جاءت بساطتها ومكياليتها. بيد أن الوحدة، سواء نظرنا إليها من جهة مرادفتها للموجود أو من جهة مقابلتها للكثرة، فإنها تعني أيضا علاقة ونسبة وإضافة. ومن هذه الجهة تأتي سائر أشكال الهويات والتطابقات والتماثلات والتوازيات، وتأتي النسبة والتناسب، ويأتي الاختلاف والمغايرة والتقابل، والسلب والحركة والتغير والكون والفساد.

وعندما تهم وحدة النسبة الموجود بعامة تتخذ اسم « وحدة النسبة إلى شئ واحد » . وهذه الوحدة تنظم الموجود والعلم الناظر فيه، اقصد الأسماء التي يتداولها أصحابه (المبادئ والعلل والعناصر واللواحق والمقولات والمتقابلات الخ.)، ولهذا سيتداخل الموضوع والعلم الناظر فيه، فيكون حديثنا عن الفلسفة هو في نفس الوقت حديثا عن الموجود والعكس، فيتساوى الموجود والخطاب عن الموجود. وهذه الإحاطة الشاملة لكل أنحاء الموجود هي التي جعلت هذه الوحدة تجمع بين التواطؤ في الاسم والحد، والاشتراك في الاسم فقط، اي تجمع بين الوحدة والاختلاف على صعيد الدلالة، وبين البرهان والجدل على صعيد المنهج. وتوجد « وحدة المنسوب إلى شئ واحد » بين أجناس وجودية (مقولات) متغايرة لا اتصال بينها إلا عن طريق جنس أولي ومركزي، كالمقولات العشر والعلل الأربع والمتقابلات الأربع. وهذا معناه أن وحدة دلالات أسماء الفلسفة الأولى ترجع إلى كونها تُحمل أو تُنسب إلى دلالة أولى متقدمة على جميع ما عداها تقدما منطقيا وأونطولوجيا وزمنيا، أما اختلافها فيرجع إلى جهة نسبتها إليه، وإلى مقدار قربها أو بعدها منه.

والجدير بالذكر أن المرور من وحدة الموجود إلى وحدة الجوهر تتطلب توسط وحدة العقل بوصفها حلقة وصل بين الموجود والماهية. ذلك أن فحص وحدة الجوهر تتم عن طريق الحد والماهية، ولا يمكن بناء أو اكتشاف هذين الأمرين إلا بفضل أفعال العقل. ونحن نعتقد بأن اشتراك الإنسان والموجود في الطبيعة العقلية الواحدة التي يمثلها العقل الهيولاني هو الذي يضمن الانتقال من الوحدة المقولية للموجود إلى الوحدة الماهوية للجوهر، أي أن ذلك الاشتراك هو الذي يؤَمّن قراءة الموجود من قِبَل العقل.

وقد فحص ابن رشد وحدة الجوهر أو الوحدة الذاتية من زوايا ثلاث : ماهوية وعلائقية وتكوينية. فوجد أنها قائمة على مبدأ وحدوي واحد، هو وحدة التواطؤ في الاسم والحد، أو ما يمكن أن نصطلح عليه بالوحدة الذاتية. وقد أدى القول بالوحدة الذاتية إلى ظهور صعوبات أونطولوجية، كمسألة مواطأة أو مغايرة الماهية لذي الماهية، ومسألة ذاتية أو انفصال الماهية عن مبادئ الماهية. ولمواجهة المذهبين اللذين ينتصران للفصل : مذهب ابن سينا الذي نادى بتمييز الماهية عن الوجود، ومذهب المـُثُل الأفلاطوني الذي فصل الماهية عن ذي الماهية، دافع ابن رشد عن موقف المواطأة بين الماهية وذي الماهية. وقد فعل ذلك بفضل تنويعه لدلالة الماهية والصورة على أساس مبدأ التقديم والتأخير، بخلاف أفلاطون الذي أخذ الماهية بمعنى متواطئ، وبخلاف ابن سينا الذي قسّم اسم الماهية إلى ثلاثة معاني لا تشترك إلا في الاسم : الماهية السائرة في الأشياء، والماهية الذهنية، والماهية المطلقة التي لا هي موجودة ولا معدومة، لا واحدة ولا كثيرة.

وتترابط الوحدة التلازمية (بين الواحد والموجود)، والوحدة النسبية (بين الجوهر والمقولات التسع)، والوحدة الذاتية (بين مبدأي الماهية – وهما المادة والصورة – وبين الموجود والماهية) والوحدة التواطؤية (بين الماهية وذي الماهية)، قلت تترابط هذه الوحدات فيما بينها ترابط تساوق وتلازم، فلا أحد له الأصالة على الأخرى، وإلا فان فصل الواحد عن الموجود يؤدي إلى فصل الموجود عن الموجودات، والموجود عن الماهية، فتنعدم الأشياء وتتوقف المعرفة والأسماء.

***

وبحكم شمولية الوحدة، فإن أفعالها تمتد حتى إلى المجالات التي تبدو وكأنها ليست من سياقها، وأقصد بذلك مجالي الأعراض والمتضادات. وعند استقراء موقف أبي الوليد من « الوحدة العرضية » نلاحظ وجود نوع من التردد بين مذهبين متقابلين : مذهب مقالة الهاء من تفسير ما بعد الطبيعة، الذي يرى أن الأعراض صفر من المعنى، وبالتالي فلا وحدة ولا وجود ولا علم ولا علة ولا ماهية ولا حدّ لها ؛ ومذهب مقالتي الزاى والحاء من نفس التفسير، الذي وأن كان يعترف بامتناع وجود حدود وماهيات حقة للأعراض بسبب فقرها الوحدوي والوجودي وتبعيتها للجوهر، فإنه مع ذلك ينتهي إلى الإقرار بوجود ضرب من الوحدة والحد والماهية لها، لاسيما بالنسبة للأعراض الذاتية التي تمتاز بكونها ضرورية بالنسبة للشيء، إلا أنها لا تدخل في ماهيته كما هو الأمر بالنسبة للمقومات الذاتية، فالذكورة والأنوثة أمران لازمان ضروريان للنوع الحيواني، وكذا الزوجية والفردية بالنسبة للعدد، ولكنهما مع ذلك لا تدخلان في ماهية الحيوان والعدد. ومن ثم كانت الوحدة عرضية بالنسبة للأعراض غير الذاتية، وذاتية بالنسبة للأعراض الذاتية، إلا أنها ليست من صنف الذاتية المقوِّمة، وإنما فقط من صنف الذاتية اللازمة. ومن المعلوم أن الذاتية الأولى تعطي الحدود، والذاتية الثانية تعطي البراهين.

أما عن المتضادات، فيظهر من أمرها في البداية بأن أفقها مخالف لأفق الفلسفة الرشدية ذي الطابع الوحدوي الذي يتميز خاصة بوحدة المبدأ الأقصى، أي بوحدته العددية والانفرادية، وبسيادة مبدأ الربط والنسبة بين مستويات الموجود المختلفة، في مقابل نظرية التضاد العتيقة التي تتميز بطابعها الثنائي والتقابلي، الذي يخلق مجالا من الصراع والاستبعاد المتبادل . لكننا عندما نتأمل وضع المتضادات في الفكر الرشدي مليّا نجدها هي الأخرى تستند في أفعالها على مبدأ الوحدة، بالرغم من طابعها الثنائي والتقابلي. ذلك أن المتضادين لا يمكن أن يقوما بدورهما الاستبعادي المتبادل إلا إذا كانا ينتسبان إلى نفس الجنس الواحد الذي ينقسم إلى طبيعتين متنافيتين. والعلة في ذلك أن « الوحدة بالجنس » هي التي تضمن وصول الاختلاف بينهما إلى الغاية في التباعد، مما يحوّل الاختلاف إلى صراع واستبعاد متبادل، أي يحوّل المختلفين إلى ضدين. ومما يشهد على أن الوحدة بالجنس هي الشرط الضروري لحدوث التضاد، أنه بالرغم من أن الاختلاف بين المقولات وصل إلى غايته القصوى، فانه يؤدي إلى المغايرة لا إلى التضاد، أي يؤدي إلى الاختلاف في الجنس لا في النوع، وما ذلك إلا لأنها – أي المقولات – تنتمي إلى جنس غير حقيقي، أو ما يشبه الجنس، وهو الموجود.

****

ونصل الآن إلى الوحدة الأخيرة في هرم الوحدات، وهي الوحدة الميتافيزيقية. نعم، لقد أَبَى ابن رشد الا أن يجعل « النسبة » قاسما مشتركا بين وحدة « الموجود بما هو موجود » ووحدة « الموجود بما هو مفارق »، إلا أنه ميّز بينهما بأن جعل النسبة المقولية نسبة جنسية، بينما النسبة المتعالية نسبة سببية. وهذا ما حمل ابن رشد على إدخال عناصر ثلاثة إلى المشهد الميتافيزيقي لتفسير الفعل السببي لهذه النسبة، و هي : المحرك الأول، والعقل، والحركة.

لقد كانت الوحدة الميتافيزيقية هي الأخرى مناسبة لابن رشد كي يميز مقالته عن مقالة غيره من الفلاسفة والمتكلمين، وذلك حينما ربطها بمبدأي الحركة والعقل. وبالفعل، فقد أفضى هذا الربط إلى جملة أطروحات اشتهر بها أبو الوليد، منها توحيده بين « المبدأ الأول » و« المحرك الأول »، وإلغاؤه للحظة الوساطة – التي كان يمثلها العقل في نظرية الفيض – بين المحرك الأول والعالم ؛ ومنها أيضا القول بأن الحركة أداة وجود وحفظ معا، مما يرقيها إلى مرتبة أن تكون جوهر العالم والوجود. من جهة أخرى صارت الحركة أداة الوحدة من أجل إخراج الموجود إلى الفعل، مما جعلها تأخذ دور الوساطة الذي كان يقوم به العقل بين الواحد والموجود في النسقين الافلوطيني، والفارابوي -السينيوي.

وبفضل إرجاع مفهوم الفاعل إلى مفهوم المحرك، والنظر إليه لا من حيث هو فاعل، بل بما هو صورة وغاية، نأى أبو الوليد عن مبدأ الصدور الأحدي، لأنه صار بالإمكان تصور صدور الكثرة عن الواحد، اي عن الفاعل الأول مباشرة دون أن تنال تلك الكثرة من وحدته المطلقة. وقد أدى تحويل مفهوم الفاعل إلى مفهوم المحرك، وربطه بالصورة والغاية إلى ميلاد مفهوم جديد ومتوازن بين القول بالخلق والقول بالقدم هو مفهوم « الخلق المستمر »، الذي يضمن في نفس الوقت عدم انقطاع الحركة، وإثبات تبعية العالم للمبدأ الأول تبعية مباشرة ودائمة. وقد مكن القول بهذه التبعية من تجاوز التعارض بين الزمن والأزل، والتخفيف من حدة التقابل بين الوحدة والكثرة، وبين الإرادة والضرورة. وبعبارة أخرى، متى كان المحرك الأول علة فاعلة وصورية في نفس الوقت اتخذ فعل الإيجاد معنى الحفظ الدائم أو الخلق المستمر.

لكن الحركة عندما تتعلق بالسماء تكون نتيجة « شوق » الأفلاك السماوية لمبادئها العاقلة (المفارِقات)، مما يدل من ناحية على وجود « عقل » لتلك الأجرام السماوية، ومن ناحية ثانية على وجود عقل تتصوره تلك الأجرام وتشتاق إليه فتتحرك نحوه بوصفه مبدأ لها. وبهذا النحو يتداخل فعل العقل، الذي هو الربط، بفعل الحركة، ويصير القول بان الموجود نتيجة الربط مرادفا للقول بان الموجود نتيجة الحركة، لان الربط هو تحريك المادة نحو صورتها. وهذا ما دفع ابن رشد إلى القول بأنه لو توقفت الحركة او الربط طَرفة عين لانهار العالم. ومن هنا حقّ لنا أن نزعم بأن الحركة ندّ للواحد والموجود، ولعل هذا الوضع هو ما يفسر غيابها من لائحة المقولات. ومما يعزز هذا التأويل أن المبادئ الثلاثة – الوحدة والحركة والعقل – شكلت الميادين الأساسية للمواجهات التي جرت بين ابن رشد وابن سينا.

***

بهذا نكون قد وقفنا على أهم تجليات الوحدة على أصعدة الموجود والجواهر والأعراض والمتقابلات والمفارقات. ولا شك أن اختلاف تجليات الوحدة هو تعبير عن تنوع أفعالها ووظائفها. وبالفعل، تقوم الوحدة عند ابن رشد بجملة من الوظائف الاونطولوجية والمعرفية والميتافيزيقية نجملها في سبع وظائف : (1) فهي أولا قوة حاصرة، تضع حدّاً لتسلسل المبادئ والعلل والمقومات والصفات والعناصر، لتكوّن منها أشياء وماهيات وبراهين ومعارف وعلوما ومخاطبات، « فما يتسلسل – كما يقول ابن تومرت – لا يتحصل ». ومعنى ذلك أنه بفضل وظيفة الحصر تضمن الوحدةُ المعقوليةَ والماهيةَ والوجودَ للأشياء. (2) والوحدة قوة رابطة، فهي تربط الصورة بالمادة، والجنس بالفصل، والنوع بالأفراد، والجوهر بالأعراض. وبهذه الجهة يكون للوحدة معاني التركيب والإضافة والنسبة، ومعاني الهوية والمطابقة والتوحيد. (3) وللوحدة وظيفة ثالثة تبدو وكأنها وليدة الوظيفة السابقة، ولكنها مضادة لها، على الأقل في الظاهر، وهي وظيفة الفصل ؛ ذلك أن الربط تحديد، والتحديد فصل للشيء عن جنسه العام : فالوحدة الجنسية تفصل الأجناس الطبيعية عن الأجناس المقولية، والوحدة النوعية تفصل الأنواع عن أجناسها، والوحدة العددية تفصل الأفراد عن أنواعهم، والوحدة الضدية تفصل الضد عن ضده. (4) وللوحدة وظيفة رابعة تتمثل في إحداث الاختلاف والتفاضل والنظام بين العناصر المكوّنة للشيء الواحد ؛ ففعل الوحدة يقتضي أن تكون عناصر الشيء غير متكافئة أونطولوجيا، لأن المساواة لا تستطيع خلق الحقل الدينامي المتوتر الذي يسمح باندراج مقومات الشيء بعضها تحت البعض لتحقيق الوحدة. وبدوره، يقتضي التفاضل وجود مبدأ أول للنظام تنتظم حوله العناصر في بنية ما. فلكل وحدة مبدؤها الأول، وكل الأوائل تؤم المبدأ الأول بإطلاق، وهو المحرك الأول. (5) وبفضل إحداثها للتفاضل والنظام في الأشياء والماهيات، تهيئ الوحدة الشروط الضرورية للقيام بأفعال التسمية والمعرفة والمخاطبة، وتضمن تدخل العقل في سيرورة الموجود. (6) وتقوم الوحدة بوظيفة سادسة هي وظيفة المكيال بحكم انتمائها أولا لمقولة الكم التي تمنحها البساطة وعدم الانقسام، الشرط الضروري لوجود المكيال، وبحكم انتمائها ثانيا لمقولة الإضافة التي تضمن للوحدة القدرةَ على التواجد في كل الموجودات. ولكي تلعب الوحدة دور المكيال وجب أن تكون من طبيعة المكيل، اي أن تكون من صنف المجال الوجودي الذي توجد فيه. ومن ثم يتخذ المكيال معنى المبدأ الذي ينهض عليه ذلك المجال الوجودي، فللأعداد مكيالها، وللأصوات والألوان مكيالها الخ.، ومن ثم يمتنع أن يكون هناك مكيال واحد لجميع المكيلات، او مبدأ واحد لجميع الموجودات. (7) وإذا كان من المسلّم به أن الوحدة رديفة الثبات الجنسي والنوعي والماهوي، فإنها تُعتبر أيضا فاعلةً للسلب والتقابل والحركة والتغير والكون والفساد. فبمقتضى تقابل الوحدة مع الكثرة، تنشأ الغيرية والاختلاف والتباعد في الوجود والتقابل، وهي الأمور التي تحدث الحركة.

إن الوظائف السبع التي وقفنا عليها تبيّن لنا أن الوحدة متعددة في إنتاجها : فهي تنتج الهويات والماهيات والأفراد، تنتج المتقابلات والمتضادات والحركات والتغيرات. وتشهد هذه الفعاليات المتنوعة في أنحائها ونتائجها على أن ارتباط الوحدة بالكثرة هو ارتباط ذاتي، « فالوحدة التي لا كثرة فيها محال » كما يقول ابن عربي. وتُبين لنا تلك الوظائف السبع أيضا بأن الوحدة ضرورية للموجود سواء نظرنا إليها من زاوية المرادَفَـة له، أو من زاوية مقابلتها للكثرة وتأسيها لها.

***

هكذا نلاحظ أن وضع الواحد وضع ملتبس سواء في معانيه أو في علاقاته أو في فعالياته. فالواحد يبدو لنا أحيانا مرادفا للموجود، وأحيانا مقابلا للكثير، تارة يكون الواحد قريبا من الصورة التي هي ماهية الجوهر، وتارة أخرى يكون منضويا تحت مقولتي الكم والإضافة العرضيتين، تارة يكون الواحد ذا طبيعة بسيطة غير قابلة للانقسام، وأخرى ذا طبيعة كلية، أحيانا يكون له معنى الانفراد وانعدام النظير، وأحيانا أخرى يكون له معنى المكيال والمبدأ الذي يؤسس الأشياء ويقدّرها. بيد أن هذه التجليات والأفعال المختلفة للواحد أهلته لأن يكون قادراً على الانتشار والتجلي في سائر عوالم الموجود و مجالاته المختلفة.

ومع ذلك، فإننا نعتقد أن هناك قاسما مشتركا بين معظم الوحدات السابقة (الترادفية والنسبية والذاتية والتواطؤية والعرضية والتضادية)، وهو الربط والنسبة. غير أن النسبة هي الأخرى تتخذ معاني شتى حسب المجال الذي تفعل فيه، فمنها النسبة الجنسية التي تربط بين المقولات، والنسبة السببية بين الجواهر المفارقة، والنسبة الذاتية بين مقومي الماهية (الصورة والمادة)، والنسبة التناسبية بين المبادئ، والنسبة العرضية بين الأعراض والجوهر، والنسبة الحملية بين المحمولات الذهنية الخ. والبحث عن النسبة هو بحث عن النظام والتبعية والسببية والمعقولية في الكون. فيكون البحث عن الوحدة في الكون هو في حقيقة الأمر بحثا عن النسبة والنظام والعقل فيه. لكن البحث عن تجلي العقل في الموجود، هو في حقيقة الامر بحث عن أنحاء تجلى الوحدة في الموجود. فالفلسفة محكومة دوما بالذهاب إلى ما وراء الموجود والعقل. فإذا كأن الموجود عائدا في نهاية المطاف إلى الوحدة، وكانت الوحدة راجعة إلى النسبة والعلاقة، ومن ثم إلى الاختلاف والتضاد والصيرورة، فان الموجود سيبدو لنا هشا، مسكونا بالعدم عن طريق الوحدة، وكأن العدم من سياق الوحدة !

وبهذا المسلك الدلالي والقولي حاول ابن رشد أن يقف موقفا عدلا بين نُفاة الوحدة ومنكري الكثرة، بين الذين انتصروا لأصالة الواحد على الوجود وأبعدوه عن مرمى العقل والحدس واللغة، والذين لم يعترفوا للوحدة بأي دور أونطولوجي أو طبيعي أو معرفي أو ميتافيزيقي. لقد نجح ابن رشد بهذا النحو في إبقاء الأونطولوجيا في نطاق العلم، رافضا أن يزجّ بها في متاهات العلامة والإشارة.

ونستطيع أن نقرأ معنى الموقف الرشدي من الوحدة، بل ومصير الفلسفة الرشدية برمتها سواء في ثقافته الأصلية، الثقافة العربية الإسلامية، أو في الثقافتين العبرية واللاتينية، من خلال لقاءين خطيرين طبعا مسيرته الفكرية وتجربته الميتافيزيقية، أحدهما فاشل والآخر ناجح. اللقاء الأول – وقد جرى سنة 564-565هـ/ 1168م – سعى إليه صاحب الأمر القائم آنذاك، أبو يعقوب يوسف الموحدي. وفي هذا اللقاء لاذ ابن رشد بالصمت، تاركا للأمير مبادرة السؤال عن علم السماء والعالم والخوض في آفاقه. أما اللقاء الثاني – والذي جرى حوالي 581هـ/1185م – فقد سعى إليه ابن رشد نفسه بطرق ماكرة، وكان مع أحد المرشحين للصدارة في عالم الثقافة الخارجة عن سلطة الفلسفة والشريعة معا : محي الدين ابن عربي. لقد كان ابن رشد في هذا اللقاء هو المبادر بالسؤال بلغة العلامة والإشارة في البداية، ثم بلغة العلم والبرهان في النهاية، في حين ظل ابن عربي نصف صامت بإجاباته الغامضة والمستفزة، مما أدى إلى فشل اللقاء.

ونعتقد بأن سؤال « الوصول » هو الذي جعل لقاء الفلسفة بالتصوف يبوء بالفشل، بينما تكلل لقاء الفلسفة بالسياسة بالنجاح بسبب سؤاله عن السماء بلغة العلم الطبيعي. ونحن نزعم بأن مصير اللقائين هو الذي ارتهن مصير الفلسفة الرشدية في الثقافتين العربية الإسلامية، والأوروبية اليهودية -المسيحية. فبسبب تعلق حضارتنا، بعد ابن رشد، بالنموذج الصوفي للوحدة تـَمّ هجران الفلسفة ونسيان الذات والوجود وبمعيتهما ابن رشد، في حين لـمّا تعلقت أوروبا اللاتينية بالنموذج العلمي تابعت ابن رشد بحماس عارم قبل أن تقطع معه. إن هذه المفارقة تُظهر لنا كيف كان قَدَرُ ابن رشد مزيجا من الإخفاق والنجاح. لقد نجح في الاستمرار في المركز الحضاري الجديد، بينما فشل في المركز الحضاري الإسلامي الآفل الذي صار يتحول سريعا إلى هامش منذ وفاة طبيب مراكش وفيلسوفها.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://oranphilosophie.forumalgerie.net
 
من العقـل الكيفي إلى العقـل الكمّـي
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
اللقاء الفلسفي :: الأروقة الفلسفية :: نصوص منتقاة-
انتقل الى: