اللقاء الفلسفي
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.


 
الرئيسيةالتسجيلأحدث الصوردخول
مرحبا بكم في منتدى الفلسفة المحكمة
لكل استفساراتكم يمكنكم الاتصال بالبريد الالكتروني الخاص بالمنتدى: oranphilosophie@yahoo.fr
ازرار التصفُّح
 البوابة
 الرئيسية
 قائمة الاعضاء
 البيانات الشخصية
 س .و .ج
 بحـث
بحـث
 
 

نتائج البحث
 
Rechercher بحث متقدم
Like/Tweet/+1
سحابة الكلمات الدلالية
المواضيع الأخيرة
» نصر حامد أبو زيد
من تجاهل الشخص إلى مناهضة الكائن تحولات في الرؤية الفلسفية المغربية I_icon_minitimeالخميس فبراير 28, 2013 5:56 pm من طرف بن يمينة كريم محمد

» يوم دراسي حول الفلسفة و العلم (جدل الفلسفة و ثورة العلم)
من تجاهل الشخص إلى مناهضة الكائن تحولات في الرؤية الفلسفية المغربية I_icon_minitimeالسبت يناير 26, 2013 3:03 am من طرف بن يمينة كريم محمد

» الملتقى الوطني الثاني حول إشكالية التقويم و أساليبه في منظور التكوين الجامعي في ظل نظام LMD
من تجاهل الشخص إلى مناهضة الكائن تحولات في الرؤية الفلسفية المغربية I_icon_minitimeالأحد يناير 20, 2013 8:37 pm من طرف بن يمينة كريم محمد

» منتديات قسم العلوم الإجتماعية جامعة د.مولاي الطاهر -سعيدة- شعبة الفلسفة
من تجاهل الشخص إلى مناهضة الكائن تحولات في الرؤية الفلسفية المغربية I_icon_minitimeالخميس يناير 03, 2013 10:09 pm من طرف بن يمينة كريم محمد

» ملتقى الأدب الإصلاحي: الأفكار والأشياء 03/04 أبريل 2013 مخبر الحركة النقدية في كلية الآداب واللغات- قسم الأدب العربي: جامعة د. الطاهر مولاي: سعيدة – الجزائر
من تجاهل الشخص إلى مناهضة الكائن تحولات في الرؤية الفلسفية المغربية I_icon_minitimeالخميس يناير 03, 2013 10:05 pm من طرف بن يمينة كريم محمد

» الملتقى الدولي الثاني حول حوارات في الدين واللغة يومي 15 و 16 أفريل 2013
من تجاهل الشخص إلى مناهضة الكائن تحولات في الرؤية الفلسفية المغربية I_icon_minitimeالخميس يناير 03, 2013 10:02 pm من طرف بن يمينة كريم محمد

» ملتقى وطني حول المعالجة الآلية للغة العربية - واقع وآفاق - يومي 06/07 جمادى الأولى 1434 هـ الموافق 18/19 مارس 2013.
من تجاهل الشخص إلى مناهضة الكائن تحولات في الرؤية الفلسفية المغربية I_icon_minitimeالخميس يناير 03, 2013 10:00 pm من طرف بن يمينة كريم محمد

» جائزة عبد الحميد شومان للباحثين العرب الشبان
من تجاهل الشخص إلى مناهضة الكائن تحولات في الرؤية الفلسفية المغربية I_icon_minitimeالأحد أكتوبر 23, 2011 11:44 pm من طرف بن يمينة كريم محمد

» Colloque National :Les langues dans l’espace familial algérien
من تجاهل الشخص إلى مناهضة الكائن تحولات في الرؤية الفلسفية المغربية I_icon_minitimeالثلاثاء سبتمبر 27, 2011 7:11 pm من طرف بن يمينة كريم محمد

Like/Tweet/+1
المتواجدون الآن ؟
ككل هناك 1 عُضو حالياً في هذا المنتدى :: 0 عضو مُسجل, 0 عُضو مُختفي و 1 زائر

لا أحد

أكبر عدد للأعضاء المتواجدين في هذا المنتدى في نفس الوقت كان 21 بتاريخ الإثنين يونيو 08, 2020 10:32 am
دخول
اسم العضو:
كلمة السر:
ادخلني بشكل آلي عند زيارتي مرة اخرى: 
:: لقد نسيت كلمة السر
أفضل 10 أعضاء في هذا المنتدى
بن يمينة كريم محمد - 74
من تجاهل الشخص إلى مناهضة الكائن تحولات في الرؤية الفلسفية المغربية I_vote_rcapمن تجاهل الشخص إلى مناهضة الكائن تحولات في الرؤية الفلسفية المغربية I_voting_barمن تجاهل الشخص إلى مناهضة الكائن تحولات في الرؤية الفلسفية المغربية I_vote_lcap 

 

 من تجاهل الشخص إلى مناهضة الكائن تحولات في الرؤية الفلسفية المغربية

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
بن يمينة كريم محمد
Admin



عدد المساهمات : 74
تاريخ التسجيل : 08/08/2011
العمر : 56

من تجاهل الشخص إلى مناهضة الكائن تحولات في الرؤية الفلسفية المغربية Empty
مُساهمةموضوع: من تجاهل الشخص إلى مناهضة الكائن تحولات في الرؤية الفلسفية المغربية   من تجاهل الشخص إلى مناهضة الكائن تحولات في الرؤية الفلسفية المغربية I_icon_minitimeالخميس أغسطس 18, 2011 5:55 pm

من تجاهل الشخص إلى مناهضة الكائن

تحولات في الرؤية الفلسفية المغربية

مولاي عبد السلام بن مشيش، سيدي عبد الرحمن المجذوب ومحمد عزيز الحبابي

لمحمد الحبابي فضل » استئناف البدء «، بدء التفكير الفلسفي في المغرب الحديث. وهذا يكفيه. لكن البدء (أو البَعد) يُحيلنا على القَبْل. فهل كان القَبل فارغا حقا، ناسيا ذاته وزمانه؟

إنه لا يمكن تقدير أهمية النقلة الكيفية التي دشنها الحبابي تحت مسمى اللحظة الشخصانية في ميدان الفكر دون الالتفات إلى الوراء قليلا، والتعرف على نحو نظر الإنسان المغربي إلى ذاته ووجوده في علاقتها بالوجود العام. وفي هذا السبيل لاحت أمامنا لحظتين من بين لحظات تاريخنا الفكري، وجدنا فيهما ما يمكننا من إدراك دلالة جرأة الحبابي في استئناف القول الفلسفي. صاحب اللحظة الأولى، وهي اللحظة الوحدوية، هو القطب مولاي عبد بن مشيش (م. 622هـ)، وصاحب اللحظة الثانية، اللحظة الكائنية، يمثلها عبد الرحمن المجذوب (م. 976 هـ). هكذا سيكون علينا أن نتعقب ثلاث تجارب فكرية: تجربة “الانتشال والإغراق” في ومن الأحدية والواحد والوحدة لمولاي عبد السلام، وتجربة “المشاهدة والعمى” للكون والمكَوّن لسيدي عبد الرحمن المجذوب، وتجربة تشخصن الذات البشرية عبر “تفصيل قماش الكينونة والعناية برتوشاته” لمحمد عزيز الحبابي (25/12/ 1923-21/8/1993). إذن نحن أمام ثلاث لغات، لغة الأحدية ولغة الكينونة ثم لغة الشخصانية، وثلاث صور لثلاث رؤى فكرية.
1. من التوحيد إلى التوحد: عبد السلام بن مشيش

يُروَى عن مولاي عبد السلام بن مشيش “صلاة” نقتطف منها ما يلي:

»اللهم… زُجَّ بي في بحار الأحدية، وانشلني من أوحال التوحيد، وأغرقني في عين بحر الوحدة، حتى لا أرى ولا أسمع ولا أجد ولا أحس إلا بها«.

إنها ثلاثة أدعية: طلب الزّج، وطلب الانتشال، ثم طلب الإغراق؛ بالنسبة لثلاث منازل: منزلة البحار، ومنزلة الأوحال، ثم منزلة عين البحر؛ أو بالأحرى ثلاثة مدارج: الأحدية والتوحيد والوحدة.

واضح أن اللغة المشيشية ليست لغة معرفية، وإنما هي لغة وحدانية. فالقطب المشيشي لا يريد أن يعرف، لا يسعى إلى وضع مسافة بينه وبين الواحد عبر وساطة العقل والمعقولات، بل يريد أن يتحد، أن يفنى في “عين الوحدة”، فيصبح هو هي. وهذا ما يجعلنا نفهم طلب “الانتشال من أوحال التوحيد”، بكونه طلب للتخلص من أوحال العقل من حيث هو أداة للتوحيد، سواء اعتبرنا موضوع التوحيد هو الله أو الوجود المطلق. فأمام مشهد الكثرة في اللوازم والصفات والفصول والمقولات التي تقدمها الحواس الخارجية والداخلية للعقل عن الوجود، لا يملك العقل، بحكم وظيفته وطبيعته، إلا أن يفرض وحدته، بردّ الكثرة إلى أوحاله، أي توحيدها في أسماء ومقولات وحدود. ونفس الأمر بالنسبة للذات الإلهية التي يتم تحزيبها بواسطة علم الكلام، أي إخضاع الكلام الإلهي لمقولات العقل البشري، فينشأ عن ذلك صراع لا ينتهي بين الفرق الكلامية يُبعِد المؤمن عن فكرة الوحدة الدينية شيئا فشيئا. إنه تضرع للتخلص من هيئة للمشاكسة تخلقها في النفس العمليات الجدلية لتوحيد المتضادات في تضادها، وإخضاع الكثرة في اختلافها لأدوات الوحدة والذاتية. فلا أنت في أرض الكثرة، ولا في بحر الوحدة، وإنما في أوحال الإنسان من حيث هو ناطق بالوحدة باسم الكثرة، أو ناطق بالعقل باسم الجسد. إنها حال مانعة في ذات الوقت من نعمة سكون الأحدية، ومن فتنة الكائنية.

للتخلص من مشاكسة علم الكلام وأنتروبولوجيته، ومعاندة الأونطولوجيا وترويضها الوجودَ بالعقل، كان على مولاي عبد السلام أن يمضي قدماً في تضرعه متوسلا »الزج به في بحار الأحدية«، فيُغمَر بدل أن يغامر برفع رأسه، ويتوحد عوض أن يعرِف، ويفنى بدل أن يتعقل. لكن في مقام الأحدية ما زال هناك شيء من العلاقة ومن التعدد (الزج/البحار)، ولذلك نجده يطلب الارتماء في الآخر، بدل البحث في محتويات الذات عن علامة للأحدية، أو للتنقيب في ثنايا العقل عن آية للاعقل. فقد أوصدت أبواب الذات واستفرغت من أوحالها تهييئا لها للانغمار في مياه البحار الصافية. لهذا لجأ إلى التشبيهات والاستعارات لكونها توجد خارج الأسماء والحدود والمقولات، بوصفها موجودات مجسدة تراها عين الخيال في برزخ الثبوت. الأحدية إذن ليست في الذات، إنها هناك. وبدل أن نأتي بها إلى ذاتنا بآلة العقل، أو نقرأ آثارها في ثنايا وجودنا بوسيلة النطق، علينا أن نقذف بالذات في بحارها الغامرة.

ومع ذلك، لم يقنع مولاي عبد السلام “بالزج” به في بحار الأحدية، لأن “الزج” بالذات في البحار المتلاطمة للأحدية لا يحول دون رفع الذات لرأسها والظهور من تحت اليم. لم يقنع بمقام الأحدية لكونها في مرتبة العلاقة، ولا ترقى به إلى مستوى الأنية والكنه الذي يكفله الغرق في » عين بحر الوحدة «، أي التوحد بجوهر التوحيد والأحدية معا، فتتلاشى الذات تماما في الموضوع فيصبحان شيئا واحداً. الغرق في “عين” بحر الوحدة الذي لا حد له ولا حدود، يجرف الأنا إلى أعماق العمق بحيث لا يبقى للأنا أي أثر ظاهر، حيث تصير أناه مجرد “باء” في دعاء »زُجّ بي«، و”نون” في توسلَيْ »أنشلني وأغرقني«. إنه اتصال بالوحدة في ذاتها لا من حيث هي مبدأ، أي من حيث هي علاقة وإضافة. سعَى مولاي عبد السلام بهذا إلى أن ينقذ ذاته من ذاته، مستعجلا الخروج من كهفها، وبمعيتها من كهف الأشياء، ومغارة التاريخ، ومتاهة المجتمع، وأوحال العقل، إلى فضاء عين بحر الوحدة. كان من وراء ذلك يتوخّى أن يبدد مِلْكيته في سبيل وحدته، ويتخلى عن حريته من أجل عبوديته، بالتخلص من هوية “الأ-نا” ليلقِي بها في هوة الوحدة، كيلا يبقى معها أي صدى لها. إنه تصميم على اقتلاع الذات من جذور كائنيتها للزج بها في لُجّة الواحد، أي فيما وراء حدود الوجود، طامسا بذلك مظاهر تفردها وطامرا مسافة انفصالها، لتصير شيئا واحدا مع الوحدة.

لكن هل هذه الإرادة هي حقا إرادة للعودة إلى الأصل فزعا من التشرد الوجودي وهروبا من ضوضاء الكائنية نحو سكون الوحدة؟ هل هي إرادة للعودة “بتفصيلة كسوة الكائن” إلى حالة القماش الخام الذي لم يخترقه بعد مقص الخياط؟ أم أنها في حقيقة الأمر رغبة في الاستسلام للعبودية والاسترقاق لغاية تحقيق لحظة الجبروتية ونيل الملكوتية الشاملة، وسعيا للاستغراق أملا في اختراق كل الحدود، حدود الزمن والأشياء، لتصير الذات عارية عن كل تعدد واختلاف وتميز؟ لكن ألا يهدد هذا الطموح لاختراق حدود الإنسان بما هو إنسان، وتجاوز آفاقه الممكنة، بالعودة بالإنسان إلى ما دون إنسانيته؟ لعل في تأملات الحبابي من العناصر ما تسمح لنا بإجابة “شافية” لهذه المسألة. لكن قبل ذلك علينا أن نعرّج على لحظة سيدي عبد الرحمن المجذوب للوقوف على ما يمكن أن يكون توطئة ما في طريق ظهور لحظة الحبابي.
2. المجذوب بين الكون والمْكُوّن:

يقول سيدي عبد الرحمان المجذوب في إحدى أجمل رباعياته بدارجة أُجهضت في عزّ تطورها لسبب نجهله:

من شاهَدْ الكوْن بالكون

عزِّهْ في عْمَى البْصيرة

ومن شاهد الكون بالمْكوّن

صادف علاج السريرة

أول ما لفت انتباهنا ونحن نقرأ هذه الرباعية هو الاختلاف الواضح بين لغة المجذوب بتشبيهاتها وإيحاءاتها وألغازها ولغة مولاي عبد السلام بن مشيش. فقد انتقل سيدي عبد الرحمن المجذوب من لغة التوحيد والأحدية والوحدة إلى لغة الكون والمكوّن، من لغة إينولوجية (وحدوية) مفعمة بالثبات والسكون، إلى لغة أونطولوجية ممتلئة بالتعدد، مشحونة بالاختلاف والحركة. من وقد انعكست هذه النقلة اللغوية، أو قل النقلة الموضوعية من موضوع غير قابل للمعرفة والمشاهدة إلى موضوع قابل للمشاهدة بشروط، على التجربتين الصوفيتين، فكانت تجربة الأولى فنائية وتجربة الثانية شهودية. فإذا كان بن مشيش قد قصد التجرد من تجربة التوحيد الكلامية-الأونطولوجية لخوض غمار تجربتي الأحَدية والوحدة، فإن المجذوب فضّل، على العكس من ذلك، أن لا يشاهد الكون بالكون (وحدة الوجود)، وإنما أن “يشاهد الكون بالمكوّن” (وكأننا أمام الدليل الكوسمولوجي على وجود الله)، مع تركه ظلالا من التردد بشأن موقفه من هاتين المشاهدتين. نشير بسرعة إلى أن الرباعية تتكلم فقط على نحوَيْن متقابلين من المشاهدة، أو الانفتاح على الكون: “مشاهدة الكون بالكون”، و”مشاهدة الكون بالمكون”، ولم تتطلع إلى الكلام عن إمكان نمطين آخرين من المشاهدة المتقابلة تسمح بهما الرباعية ضمنا، وهما “مشاهدة المكوّن بالمكوّن” (العلم)[1] و”مشاهدة المكوّن بالكون” (الحلول).

يمكن تفكيك العناصر التي تتكون منها رباعيتنا المذكورة تعود إلى أربعة تقابلات: (1) التقابل في الموضوع، وهو تقابل الكون والمكون، (2) والتقابل في نوع القوة التي نشاهِد بها الموضوع، وهو تقابل البصيرة والسريرة الذي لا يحصل إلا في الأمر المرافق لها ؛ (3) ثم التقابل في الفعل، أي في فعل المشاهَدة التي تكون بالكون والتي تكون بالمكوّن ؛ (4) وأخيرا التقابل في غاية الفعل أو ثمرته، وهو إما العَمى أو العلاج. وبالرغم من انطباع قاموس التجربتين المتقابلتين باللغة الوجودية، فإنه لم يكن قصد المجذوب من وراء ذلك الحصول على معرفة نظرية، لاسيما وأننا لا نجد أثرا للعقل، ولا لأحد لواحقه فيهما (اللهم إلا إن أجزنا اعتبار البصيرة من مرادفات العقل، والعَمى استعارة لانعدام المعرفة، وهو أمر نستبعده)، وإنما نجد لغة المشاهدة التي هي أداة “ما بعد عقلية” للاتصال بما ليس قابلا للمشاهدة. والأمر الملفت للنظر أن المشاهَدَة لا تشاهد بنفسها وإنما بما يلازمها (الكون أو المكوّن)، وكأنها غير قادرة على القيام بوظيفتها في منأى عن الخَلْق (نقصد فعل الخلق الصادر عن الخالق) والمخلوق. وهذه التلازم بين المشاهدة والكون والمكون هو ما يشكل مضمون وغاية المشاهدة، وليس المشاهدة نفسها، مما يضفي عليها وضعا تقابليا، فإما أن تقود إلى عدم البصيرة أو إلى شفائها.

إن مغامرة ارتياد طريق “مشاهدة الكون بالكون”، محفوف بخطر فقدان البصيرة. بيد أن حدود الرباعية لا تمنحنا القرائن الكافية للتأكد بالضبط من طبيعة دلالة هذا العَمَى، هل هي فعلاً دلالة سلبية تشير إلى انطفاء نور البصيرة، مما يعني استحالة مشاهدة الكون بالكون؟ أم أنه على العكس من ذلك كان يعتبر هذا الطريق أفضل الطريقين السالكين إلى مشاهدة الكون، لأنه يمكّن المشاهِد من المشاهَدة بالمشاهَدة، لا بأداتها أو حتى بالذات المشاهدة نفسها، فيغدو الكون هو الذي يشاهد كينونته من خلال المشاهِد، وليس المشاهِد هو الذي يشاهد الكون، ويكون المشاهِد منّا هو الكون الذي فينا، وليس نحن باعتبارنا أحد الكائنات (المكونين). وفي هذه الحالة لن يكون معنى “التعزية” في الرباعية هو التأسي وإبداء الحزن على فقدان القدرة على المشاهدة، وإنما هو معنى التهنئة، لأن المشاهِد الغائب عن ذاته “يحقق” في غمرة فنائه بأنه لا يوجد غيره، مما يجعله يشاهد الكون بعين الكون، وهو ما جاء معناه أولا في هذين الشطرين من رباعية أخرى “أنت دليلي ياربي/ أنت أولى مني بي”. ومن البيّن بنفسه أن تسليمنا بهذا التأويل سيفضي بنا إلى تقريب تجربة المجذوب الوجودية من تجربة مشيش الوحدوية، لأنهما يقصدان، ولو بمقاربتين مختلفين، نفس الأمر هو “وحدة الوجود” الذاتية. ومما يدل على ذلك أن الرجلين معا يحذران من سلوك طريق علم الكلام، يقول عبد الرحمن المجذوب:

أ قارْيِين علم التوحيد

هْنا البحور اللِّي تْغَبِّي

هاذا مقام أهل التجريد

الواقفين مع ربي!

إذا هو علم الأوراق

حدّ الحلاوة لساني

وإذا هو سر الأذواق

أنا سكن في كناني

المجذوب، كمشيس العلمي، يحذّر من ولوج بحور “علم التوحيد” لأنها تغرق (تْغَبِّي) العالِم في القيل والقال، الذي لا تتجاوز حلاوته حد “اللسان”؛ بينما “علم التجريد”، الذي يتخذ طريق الأذواق لا طريق الأوراق، يمكّن المشاهد من “الوقوف” مع الله لا الغياب عنه ورجوع الذات إلى ذاتها (أنا سكن في كناني). الغريب أنه بالرغم من أن الاسمين اللذين ورد علم الكلام وعلم التصوف تحتهما في هذه الرباعية، وهما علم التوحيد وعلم التجريد، تتطابق دلالتهما اللغوية (التوحيد والتجريد)، أي أنهما معا في الظاهر ضد أهل التشبيه والتجسيد، فإن دلالتهما المذهبيتان متضادتان، ولعل السبب في ذلك أن العقل هو وسيلة العلم الأول، بينما المشاهدة (بمعنى الاتصال المباشر) هي وسيلة العلم الثاني.

ونعود إلى كلمة “التعزية” التي لا نشعر بالاطمئنان إلى معناها إذا بقينا في حيز الرباعية التي وردت فيها. فالتعزية بعَمى البصيرة – كما قلنا – قد تدل على التشفي، ” كما قد تدل على “الشفاء، أي قد تَحمل دلالة مضادة، دلالة مجازية، توحي بتحقيق الوصول إلى المراد المطلق، كما قد تكون لها دلالة حقيقية، أي سلبية أو عدمية بفقدان القدرة على مشاهدة المطلق بالمطلق. لكن لو جازفنا بالاستئناس برباعية أخرى، لكنّا أميل إلى ترجيح المعنى الإيجابي لعَمَى البصيرة، تقول هذه الرباعية:

غيِّبت نظْري في نظْره

وفْنِيت عن كل فان

حقَّقت ما وجدت غيرُه

ومْسِيت في الحال هاني

تسمح لنا معاني هذه الرباعية باعتبارها بمثابة “شرح” للشطر الأول من الرباعية الأولى. فيكون معنى »من شاهد الكون بالكون« هو »غيِّبت نظْري في نظْرُه«. وبالتالي فإن تغييب نظر المشاهِد في نظر المشاهَد يخوّل مشاهدة الكون بالكون. إلا أن هذه الرباعية تذهب أبعد من سابقتها بإظهار ما أخفته هذه، مستخلصة أن تجربة “إفناء النظر في النظر” لا يمكن أن تكون إلا تجربة مضادة “للكائن” (المكوَّن) من حيث هو كائن متناه فان. فالغاية من تغييب نظر الكائن في نظر الكون، أو نظر الأنا (الحاضر) في نظر الأنت (الغائب)، هي “الفناء عن كل فان”، و”الغياب في حضرة الوجود عن كل موجود”. وهنا نلتقي بالضرورة مع موضوع “العَمَى” الموجودي، أي عَمى البصيرة (= الأنّية). فالبصير يصير أعمى إلا عن الوجود الواحد، فلا يبصر لا ذاته ولا سواه، بحكم أنه صار لا يرى الكون إلا بالكون. هكذا صارت أنيته غائبة عن كائنيتها، حاضرة في كينونتها. ويذكّرنا جدل المشاهدة والعمي في علاقتهما بالكون والمكون، بجدل الحرية والعبودية عند ابن عربي، ففي ذروة “العبودية” التي لا إضافة فيها، أي عندما تصبح “عبودة” بغير ياء النسبة، يغدو العبد حراً كامل الحرية!

وفي هذا السياق تتحول “التعزية” إلى استعارة عن “الهناء” بتحقيق “وحدة الوجود” الإدراكية، أي التحقق من أن لا موجود غير الله (حقَّقت ما وجدت غيرُه ومْسِيت في الحال هاني). ووحدة الوجود هذه ترجمة لعبارة “عْمَى لبصيرة”، أي للانفتاح الوجداني على الوجود الذي يغدو “البصير” (الأعمى بالدارجة) رائيا لكل شيء في أي شيء، متجاوزا عماء الكثرة وفوضى الاختلاف في وحدة الواحد. فتصبح الذات عينا محضة تبصر في كل اتجاه، وطاقة محضة تسري في كل شيء، وتغدو في منتهى فقرها غنيةً عن الأشياء وعن ذاتها، بفضل إشراق الوجود عليها (“طْلَع النهار على القْمَار/ ولا بْقَى إلا ربي”). هكذا يصبح العمى مطلق البصيرة، ويغدو العدَم كنه المَلَكة.

لنَعد من جديد إلى الرباعية الأولى للتعرف على مفازات الطريق الثاني للمشاهدة، طريق مشاهدة “الكوْن بالمْكوَّن” مركزين انتباهنا على طرَفَيْ المشاهدة – الكون والمْكوّن – اللذين ليسا من نفس الرتبة الوجودية، بحكم اختلافهما اختلاف المحيط عن المحاط، والمبدإ عن الأثر، والجوهر عن الكل. وبغضّ النظر عن حقيقة “المْكَوّن”، هل هي الذات الناظرة (السريرة) أم أداة النظر، فإن المؤكد بالنسبة لنا هو أن هذه المشاهدة تتم عبر المشاهد متحرية إبقاء مسافة أونطولوجية بين الكون والمْكَوّن. ومن هنا كانت المشاهدة في هذه الحالة مقايسة، والشاهِد مقياسا. وهو ما يجعلها ذات طبيعة علائقية، على أن يكون المشاهِد – في هذه العلاقة – قطب جذب، وليس موضوع انجذاب إلى الوجود. إن “المشاهَدة بالمْكَوّن” هي معاينة الكائن من حيث هو مرآة للكون. ولذلك لا يكون المُشاهِد المُرتاد لهذا الطريق مضطرا لأن يخرج عن ذاته، ويُفنِي نَظره في نظر غيره للوصول إلى مشاهدة الكون، بل قصارى ما ينبغي أن يفعله هو أن يغوص في سريرته، ويُجلّي مرآة نفسه، ويشفيها من قلق السؤال وانحباس المسير وتشوش البال، ليكشف عنه.

حقا، ليس من الهيّن تحقيق هذه المشاهدة، لأن تجاوز كثرة الكائنات، وتدفق الأحوال والتحولات، وتصارع الرتب والمنازل، بحثا عن إشراق ضوء النهار على القمر، ووحدة الكون على الذات، أمر عسير المنال. إلا أن ما يشفع لهذه التجربة هو أنه متى تمت مشاهدة “الوجود بالموجود” فعلا، وانفتاح إسراره فيه، صادفت النفس علاجها وارتاحت لعثورها على كنهها في قرارها. إن “الكون” في هذا النحو من النظر، قريب منا، وليس علينا أن نبحث عنه بعيدا عنا، فكل شيء شهادة عليه، وأي أمر تجلّ لكينونته. ومن ثم لم يعد الموجود مجرد مدخل للوجود، بل أصبح، بجهة ما، هو الوجود نفسه. وهذا ما يجعل “المشاهدة المحايثة” علاجا للسريرة وتوطيدا للإنية، في مقابل “المشاهدة المفارِقة” التي تجد هناءها في تغييب ذاتها عنها.

هل كان المجذوب حقا منجذبا إلى إغراء لواحد من الطريقين دون الآخر، أم أنه كان يسلكهما معا حسب مقتضى جذبة الحال؟ إننا نعتقد أن المجذوب لم يكن يهمه القطع في الأحكام، والحسم في الانتماء إلى صف دون آخر، أو الالتزام بزاوية في مقابل أخرى، بل ما كان يرنو إليه هو امتلاك الفضاء برمته، والوقوف بين الصفوف في نقطة تسمح له بالتحرر من الكل، لامتلاك الكل.

* * *

يلتقي، إذن، مولاي عبد السلام بن مشيش وسيدي عبد الرحمن المجذوب في تطلعهما إلى مشاهدة المطلق أو الوحدة معه. إلا أن أحدهما، وهو الأول، كان حاسما في اختياره من بين الطرق الثلاث طريق الاستغراق التام في مطلق المطلق الذي لا أثر في حضرته لحضور الذات، بعد أن يكون قد تخلص من وَحَل التوحيد وذاق منزلة الزج به في لجة الأحدية. ولعل هذا ما يفسر صعوده إلى “جبل العلَم” العالية متخذا إياه مقرا لإقامته ومقامه. أما الثاني، وهو المجذوب، فقد اختار بين طريقين مختلفين في المآل، وإن كانت الغاية من ورائهما واحدة، وهي مشاهدة “الكون”. معا يشتركان في أن الغاية من تجربتهما، الوحدوية والكونية، لم تكن تحقيق الواحد أو المكوّن على حساب الوحدة أو الكون، بل بالعكس كانت تطمع في تحقيق الوجود على حساب الموجود، والوحدة على حساب الواحد. وبالرغم من أن المجذوب حقق نقلة لغوية عندما تكلم بقاموس “كوني” بدل القاموس الوحدوي، فإنه تجربته الأونطولوجية (الوجودية) تلتقي مع تجربة مولاي عبد السلام الإينولوجية (الوحدوية) في الرغبة في محو الذات كيما تصبح قادرة على تقمص الوجود والوحدة. كانت غاية المجذوب العودة بالكائنية إلى الكينونة من حيث هي واحدة لا غيرية فيها ولا خارجها. هكذا تلتقي التجربة الشهودية بالتجربة الإغراقية في الدعوة إلى نفي الكائنية في الكينونة، وفي نفي الوحدة العددية في الوحدة النوعية. فكيف سيلتقط محمد عزيز الحبابي هذا الخيط الناظم المنتقل من الإشكالية الوحدوية إلى الإشكالية الوجودية ليطوره ويؤلف إشكالية جديدة، بل ومتضادة مع الإشكاليتين السابقتين، قوامها الاهتمام بالإنسان من حيث هو شخص عينيّ ملتبس بزمانه ومكانه ومحيطه الثقافي، ومزود بقدرة لا تنفذ على التحول من حال إلى أخرى، من الكائنية إلى الشخصانية، إلى أن يحقق انتقاله النهائي إلى الإنسانية؟
3. الشخص في مواجهة الكائن: محمد عزيز الحبابي

منذ الوهلة الأولى يكشف محمد عزيز الحبابي عن لونه، فهو أولا فيلسوف، بخلاف المجذوبين السابقَيْن عليه، اللذيْن لم يكونا، ولو ضمنيا، محبَّيْن للفلسفة، لأنها تشوش عليهما صفاء تجربة الاتصال بأسئلتها النقدية وبأسلوب تفكيرها الاستدلالي. ثم هو ثانياً يقدّم نفسه فيلسوفا للشخص البشري، أي باعتباره أولا وأخيرا مفكرا منحازا للإنسان المهموم بتشخصنه في مجرى واقعه التاريخي الخاص. هكذا يسجل الحبابي بفلسفته ميلاد الفرد أو الشخص في الفكر المغربي، بعد أن كان غائبا أو مغيّبا في أفقي الوحدة والوجود. وبحكم التزامه هذا كان حريصا على التصدي لكل خطاب مجرد على الموجود، أو الوجود (الأونطولوجيا)، أو أية تجربة تقصد التحرر من الموجود في سبيل الذوبان في الوجود، أو التخلي عن التفرد والتشخص طمعا في تماس ما مع الأحدية المتعالية. كان الحبابي يفضّل أن يظل فاعلا في حقل التشخصن، على أن ينكص نحو لحظة الكينونة، أو يندفع إلى ما وراء الهوية آملا في الوصول إلى أن يصبح ذاتا كلية مطلقة.

رهان هذا المشروع الفلسفي – منظورا إليه من تاريخ الفكر العربي الإسلامي – هو استرداد “الأنا”، والعودة إلى الذات، بعد أن كان الإنسان غافلا عنها هائما وراء “الهو“. وهذه العودة إلى الذات لا تكون بالتحرر من المجتمع والتاريخ، وبقطع العلائق مع السوى والغير، وإنما بالمشاركة في صنع التاريخ وبناء المجتمع وتشييد المصير. ولم يكن ليطمع في كسب رهانه لولا تركيزه في تشخيصه لحقيقة الأنا على الجانب العيني والواقعي من وجودها، بكل ما تحمل لفظة الواقعي من أبعاد مادية (بيولوجية وبيئية وسيكولوجية واجتماعية) وروحية (ثقافية وفنية ودينية). ومن جراء ذلك لم تعد “الأنا” التي يتحدث عنها أنا مجردة مفكرة كالتي عند ديكارت، أو أنا آمرة كالتي عند كانط، وإنما أضحت الأنا شخصا. والشخص كما هو واضح فعالية، نشاط خلاق، أي تشخصنا. فالتشخصن هو ثمرة لقاء الأنا بالواقع، وتفاعل الشخص بالتاريخ. لكن لا بمعنى أن الشخص هو ثمرة انفعال بالواقع والتاريخ، بل بمعنى أن الشخص فاعل فيهما مؤثر في مصيرهما.

وهذا ما يجعل العلاقات بأجناسها المختلفة – التفاعلية والتقابلية والانجذابية والانفعالية – هي مدار البحث الشخصاني في الإنسان. ومن جراء ذلك تتوقف لغة الجوهر والماهية والذات والإنية عن التأثير في المشروع الفكري للحبابي، وذلك لأن هذه الكائنات النظرية الميتافيزيقية تشير إلى كنهٍ ثابتٍ ينطوي مسبقا على كل الخاصيات والفعاليات والآفاق الممكنة التي تلحق الذات أو تتولد عنها. أما منطق العلاقات فيقتضي أن يكون الكُنه نتيجة جدل بين العناصر المتصارعة في رحاب التاريخ، وليس مبدأ لهما. فالأنا أتعقل (بمعناه الرشدي، أي الكلي)، أو الأنا أفكر (بمعناه الديكارتي) لا يمكن أن يكون جوهر الإنسان عند الحبابي، لأن الإنسان بالنسبة إليه ليس مجرد تعقل عام أو تفكير خاص، بل هو إلى ذلك فعل وانفعال، مِلكية وعدم، وعلاقات وجسم وهلم جرا. والإنسان هو كل هذه الأمور منظور إليها في تطورها وتحولها وتفاعلها، لا في ثباتها على حال واحدة. فالحركية الجدلية للتشخصن تجرف في مجراها إنية الإنسان وجوهره، لتجعله مجرد منجز تاريخي لا ماهية قارة له.

وهذا ما يفسر، من جهة أخرى، إيلاؤه مقولةَ المِلْكية الصدارة على الكينونة. فالتشخصن ينجح كلما ابتعدت “الذات” عن نقطة الكائنية أو الكينونة (ولعله لهذا السبب لا يعير انتباها إلى الفرق بينهما)، ولذلك كان كل تفكير للعودة إليهما في نظر الحبابي إيذانا بتدهور شخصاني للأنا. إن تهميش الكينونة يؤدي، باللزوم، إلى تهميش الجوهر، وكل تبئير للعلاقة على حساب الوجود، يعطي للمِلْكية مكان الصدارة في تضاريس الذات. وبالفعل، متى حُرِم الشخص من جوهر يدعم قوامه، فإنه يتعين إيجاد وعاء داخلي تتراكم فيه خبراته العملية ومقتنياته المعرفية، ولا يمكن أن يكون هذا الوعاء لدى الحبابي سوى مقولة المِلْكية. وبالتالي، فإن ما كان يسمى ماهية أو جوهرا أو ذاتا في اللغة الأونطولوجية، صار يسمى في اللغة الشخصانية شخصية أو شخصيات، أو في أفضل الأحوال هوية أو هويات. هكذا أضحت “ماهية” الشخص مفهوما تراكميا، حركيا، وكأن الأمر يتعلق بتصور ذري سفسطائي لا يرقى إلى مستوى البنية القارة التي تكون العلاقة بين عناصرها ضرورية. لم يعد الإنسان عند الحبابي، إذن، مقيدا بماهية، بل أضحى طاقة منفتحة تنتقل في مدارج التطور من حال إلى حال، بدون رابط داخلي يوحدها، أو غاية متعالية تحدد مصيرها وتشد أوصالها، أي بدون معنى يوجد وراءها.

ومن الطبيعي أن لا يَسمح أفق العلاقة هذا بوجود – فأحرى بسيادة- الرغبة في “التوحد” بالوجود، أو في الزّج في لجة الأحدية، و”الغرق” في بحر الوحدة، أولا بحكم أن فكر العلاقة يقتضي مقايسة ونسبة وتقابلا بل وتضادا، وهي قيم لا تُستوفَى إلا بين موجودات تنتمي إلى نفس الأرومة الوجودية، وهذا ما يرفضه فكر التوحد الذي يقر فقط بوجود حق واحد، معتبرا ما عداه من قبيل العدم. وثانيا، لأنه لاستكمال وجود الأنا في اتجاه التوحد بالذات المتعالية، يستوجب فكر التوحد القيام بعملية تجريدية تطهيرية تُفرغ الأنا من محتواه التاريخي للعودة به إلى الكائنية، ومن هذه إلى الكينونة، أو من التوحيد إلى الأحدية فالوحدة ؛ بينما يسعى فكر العلاقة – على النقيض من ذلك – في اتجاه إيجابي لإثراء الأنا على الدوام وشحنه بمضامين تاريخية حتى يتمكن من المشاركة في صنع الواقع، مبعدة إياه قدر الإمكان عن كائنيته أو كينونته الفجة. فشتان إذن ما بين رغبة في إفراغ الذات من عناصرها الطبيعية والبشرية للوصول بها إلى كائنية محضة استعدادا لأن تصير كينونة أو لتذوب في “الهو”، وبين عملية لشحذ الكائن الخام وتعبئته بغية تحويله إلى شخص فعال، فيصبح من جراء ذلك مساهما في صنع التاريخ الكلي الذي هو تاريخ “النحن”؛ شتان إذن بين فكر يولي وجهه شطر الوجود والواحد، وفكر يصوب كل طاقته في اتجاه التعدد والتغير والتاريخ، بل ويعمل على وضع “الهو” بين قوسين تمكينا للأنا من التشخصن وإضفاء الدلالة على الذات.

صحيح أننا لا يمكننا أن ننكر أبدا وجود جانب “سلبي” في عملية التشخصن، وهو فعل “نزع الأقنعة”، أقنعة الشخصيات المكتسبة عبر التفاعل مع المجتمع بمقاييسه وأعرافه وقيمه، بحثا عن صدق الإنسان وفي هذا اعتراف من الحبابي بأن الشخص يواجه على الدوام بحثا عن صدق الإنسان، وفي هذا اعتراف من الحبابي بأن الشخص يواجه على الدوام تهديدا بالسقوط في الابتذال والتصنع ومسخ الذات من قِبَل واقعها الذي تعيش فيه. من هنا تظهر قيمة فعل “نزع الأقنعة” باعتباره فعلا أساسيا في مسلسل التشخصن، وفعلا للبحث عن أصالة لا عن تراكم كمي وحسب. غير أن “نزع الأقنعة” لا يعني أبدا بالنسبة للحبابي مقاطعة التاريخ ولا اختراق جدار العادة طمعا في الوصول إلى مرتبة “الإنسان المتوحد” المقيم خارج أسوار المدينة، بعيدا عن أعين حراسها. إن “نزع الأقنعة” لا يرمي إلى تمزيق غشاوة الشخصيات المتراكمة على أعين الكائن لاستعادة انتعاشه رؤية الكينونة في حقيقتها الصافية. ذلك أنه لم تكن في نية صاحب الشخصانية الواقعية أن يعود بالشخص إلى “غفلة” الكينونة و”خاميتها”، أو الدفع بها إلى حافة المطلق، بل بالعكس، ما كان يرمي إليه هو تعميق تاريخية الشخص وتكريس التزامه بالمجتمع في اتجاه تحقيق الإنسان وتطوير تاريخه. بعبارة أخرى، لا يرمي الفعل السلبي “لنزع الأقنعة” إلى الإطلالة على نواة الشخص العارية عن كل مضمون بشري، بل كان يقصد إلى التسلح باليقظة الشخصانية إزاء كل تهديد له بالمسخ من قِبَل الواقع. من هنا يمكن القول بأن “نزع الأقنعة” عند الحبابي فعل تشخصني وليس فعلا كينونا، فعلا يخضع “لناحية الشخص”، ويراعي رقابة المجتمع ومنطق التاريخ ومقولات العقل. أما “نزع الأقنعة” في تجربة التوحد فهي أشبه بالتجربة الفنية التي تتغلب عليها “اندفاعات الكينونة” على “تدخلات الشخص”، والتي تتجاهل كل رقابة اجتماعية أو تحكما قيميا أو معرفيا.

كان الحبابي إذن ينفر من توحد يعود بالإنسان إلى حالة “الثوب غير المُفصّل” على الشخص، أو حالة الخِرقة الهائمة في نسيج الوجود، ومع ذلك فإنه لا يمكن اعتبار فلسفته فلسفة انفصال؛ لأنه وإن كان يدعو إلى الانفصال عن الكائنية للتوجه إلى الشخص فإلى الإنسان، فإنه كان مع ذلك أبعد عن أن يكون فيلسوف المواقف الجذرية القاطعة، أو رجل الخنادق الفكرية المتنابذة. فقد عرف عن الحبابي أنه رجل تأليف ومصالحة، رجل يرى في الوحدة – لا بمعناها المشيشي طبعا – الفرصة الوحيدة لتشخصن الكائن وتأنسن الشخص، وعاملا فاعلا للكثافة البشرية. لقد تجلى فكر المتصل عنده في نزعته إلى تقريب المذاهب والمواقف والمفاهيم وربطها بصلات دلالية مختلفة. فقد كان يصل الفلسفة بالدين، والمثالية بالمادية، والماركسية بالوجودية، والأفلاطونية بالأرسطية، كما كان يقرن العقل بالوجود، والكائن بالشخص، والعقل بالانفعال، وكل ذلك عبر وسيط فعلٍ خارق للوصل هو فعل “التشخصن”. فالتشخصن هو العملية الرابطة لكل عناصر الحياة البشرية، وهو البوتقة الذهبية القادرة على تغيير دلالات المفاهيم والمذاهب الفلسفية لتصير عناصر في الإشكالية الشخصانية. لكن دون أن يعني ذلك تجاهلا لدور الاختلاف والتضاد في تحريك عملية التشخصن الواقعية والتنظيرية. فهو عندما يقول بوحدة الكائن والشخص مثلا لا يتردد في اعتبار دينامية تضادهما العنصر الحاسم في انتقال الإنسان من الظهور إلى التشخصن. ونفس الأمر يحدث بالنسبة لعلاقاته بالأُسَر الفلسفية المختلفة. فهو لا يضيره أن يلتقي بكل الملل والنحل، لكن دون أن يمنعه ذلك من أن يسدد أقسى الانتقادات إلى أقرب الاتجاهات الفكرية إليه. لكن مهما يكن من أمر فإننا نعتقد أن مقول الاتصال هي التي تطبع مسيرته نحو التشخصن حتى ولو اتخذ هيئة انفصال، فهل معنى ذلك أن لا حظ لمقولة التعالي في الشخصانية الواقعية؟

لا تخلو فلسفة الحبابي من مقولة التعالي، بل تعتبرها أحد الأركان الأساسية لفعل التشخصن. فالتعالي هو الذي يمكّن الذات من تجاوز الأوضاع المكتسبة ونقلها نحو آفاق تزداد رحابة كلما ازدادت الذات ثراء وتشخصنا. إلا أن الشخصانية تعاملت مع لفظ “التعالي” لا كأداة لنفي الواقع وهجر العالم، بل بالعكس، نظرت إليه باعتباره وسيلة لشخصنة العالم وتحويل حقيقته الموضوعية إلى قيمة ذاتية تجعل الأنا قادرا على امتلاكه، بدل خسرانه. كما لم يكن قصد الحبابي من استعماله لمفهوم التعالي، من جهة ثانية، الوقوف من قضايا المجتمع موقف ازدراء ونبذ، بل كان يريد أن يوظف التعالي من أجل المجتمع والتاريخ بفضل تجاوز أحواله الحاصلة واستكشاف عوالم جديدة، بعيدا عن أي حنين خامل إلى عصر “ذهبي” قد ولى، أو التسمر في موقف قدري بئيس يربط التردي بخطيئة أصلية أو بالتخلي عن العمل بمتون معينة. وأخيرا لم يكن غرضه من استثمار مفهوم “التعالي” في شخصانيته أن يكون فعلا لنفي الذات وتعليق الوعي بها أملا في محاذاة المطلق، وذلك لكون الحبابي لم ينظر إلى التعالي عبر “علاقة” شخص متناه ناقص بوجود لامتناه مطلق. إذ النظر إليه من خلال هذه العلاقة يجعل التعالي “فيضا” من فوق وليس فتحا واكتسابا بفضل مكاشفة فعلية وواقعية. لقد نظر الحبابي إلى “التعالي” ضمن مجال “الأنا الواعي بذاته”، ولغاية تأكيد وعيه بذاته، فيكون التعالي هو أن تصير الذات ذاتها عبر عمليات واقعية للتجاوز ونزع الأقنعة و”فتح سبل الاختيار أمام الإنسان”.

هكذا يبدو “التعالي” إذن فعلا سلبيا للتجاوز، ولكنه يبدو أيضا فعلا إيجابيا لترسيخ الذات، غايته تجاوز الشخص للوصول إلى مقام الإنسان، باعتباره “نقطة النهاية في مسلسل التشخصن”. وهذا ما يجعل “الأنسنة” مضادة في مضمونها واتجاهها للشخصنة، إذا فهمت الأنسنة مرادفة للكلية، والشخصنة مرادفة للفردية. وبالفعل، فإن التشخصن أداة تميز واختلاف عن الذات الأصلية (الكائنية الخام) وعن الآخرين، بينما تلعب “الأنسنة” دور توحيد الأشخاص في إنسان كلي، وتحفظ الشخص من السقوط في نرجسية التملي في الذات الفردية والاختناق في وحدتها الباردة بعيدا عن المجموع، دون أن تتركه في المقابل ضائعا في قطيع. فبعيدا عن هذا وذاك، يصبح إيقاع الأنا في مرتبة “التعالي المؤنسن” منسجما مع ذاته، متوافقا مع إيقاع الآخرين ليغدو الفردي متقاطعا مع النوعي، ويتم تجاوز ما يفرق ويميز (من حيثيات سيكولوجية واجتماعية وتايخية وثقافية) لتتحد الأغراض الخاصة مع الغايات العامة الكلية. هكذا يصير الكائن البشري “كلاًّ”، أي “كل شخص كل الإنسانية”. وهذا هو معنى الإنسان عند الحبابي، الذي لا تخفى مسحته الرشدية على أحد.

أبَى الحبابي إذن إلا أن يشوش على الدلالة الأصلية للتعالي لتصير في نهاية المطاف مضادة لمقصدها الأصلي. فقد صار التعالي “إنسيا” في الشخصانية، أي ملتزما بالواقع وفيّا للذات قاصدا الإنسان، بدل أن يكون مناهضا للشخص ونافيا للواقع. ولذلك لن يخدعنا استعمال الحبابي لمعجم التعالي ليصرفنا عن النظر إلى الشخصانية باعتبارها فلسفة مضادة للتعالي في معناه الأصلي. ولعل سبب ذلك يعود إلى كون هذه الفلسفة صدرت عن رجل خرج للتو من تاريخ متخم بالتعالي، رجل أراد أن يرجع إلى السليقة ليقول للناس إن الإنسان موجود هنا وحاضر الآن في هول من الواقع، الذي إن لم يستطع التجاوب معه واستملاكه بصحوة حقيقية وإبداع جرئ وغير مسبوق، فإنه – أي الإنسان – سيكون مهددا ثانية بالعودة لأن يقبع في كائنية تجريبية خاملة خمول النائم أو المختل عقليا، أو باردة برودة جثة المنتحر والميت.

هكذا تتراءى لنا فلسفة الحبابي “الشخصانية” و”الواقعية” وكأنها صيحة فزع “أونطولوجي” من عودة بائسة منهزمة خائرة إلى كينونة خامة غير محددة، مما اضطرها إلى وضع كل رهانها في الدعوة إلى الشروع في إعادة صياغة الهوية أو الهويات الجديدة، والدخول في مغامرة للتضاد مع الكينونة، للخروج بها من لحظة “قوة” الكائن، إلى لحظة “فعل” الهوية، عن طريق السلب والتحديد. وهذا ما يضفي على فكر الحبابي مسحة نضالية تحمل الكائن البشري على خوض المعركة التي لا نهاية لها، من أجل الدخول إلى التاريخ من جديد، بعد أن تم هجرانه مدة طويلة، وذلك بإطلاق طاقات الذات والواقع المعتقلة.

* * *

كان الحبابي مولعا بتوقيت أفكاره بماجريات التاريخ. فقد أراد من شخصانيته الواقعية أن تكون أداة رد الاعتبار للشخص المغربي خصوصا، والعربي الإسلامي على العموم، في زمن المد والعنفوان والأمل. أما الآن، وقد تبدل الزمن، وبتنا نبصر باندهاش عبثيته الغاشمة بقلق، يحق لنا أن نسائل أستاذنا الحبابي: أليست لحظتنا الآن هي بالأوْلى لحظة مجاذيب، لحظة اندفاع الكينونة وتمزيق الأقنعة الحقة، لحظة وجوب تعيين نقطة ما تمكننا من إلقاء نظرة أونطولوجية عامرة على الواقع والمصير، بدل التهافت على عمليات متناثرة لا تنتهي للتشخصن في مجرى تاريخ صارت دواليب تحريكه بأيدي قوى يكاد جبروتها يكون أونطولوجيا؟ لقد أسقط هذا الزمن أوثانا، ومزّق أقنعة، واستباح رموزا من بينها الحقيقة والعقل والإنسان، وأخيرا الدلالة والتاريخ، فماذا بقي من حقل التشخصن؟ هل نستطيع المضي في الاعتقاد بإمكانية التشخصن الحر والمنفتح في عالم يسيطر عليه جبروت التقنية والإعلام؟ أليست العودة إلى الخرقة، خرقة الكينونة، أسلك سبيلا لخرق العادة؟ لا أعتقد أن الحبابي سيذهب به الجموح نحو هذا المسعى التراجيدي المهول، وهو الفيلسوف الذي ما زال يتشخصن ويتعالى ويزيل الأقنعة باحثا عن أقنعة أخرى وعن صيغ جديدة وإيجابية لمواجهة العالم.
4. المواطن في مواجهة التاريخ: عبد الله العروي
[1] . لم يكن من الممكن أن تخطر هذه الإمكانية على بال المجذوب، وكان علينا أن ننتظر الحبابي ليفعل ذلك، بل ليهجر حتى دائرة الكائن (المكون) نحو مقامات أكثر اقترابا من الإنسان وهو يصارع في تحقيق تشخصنه.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://oranphilosophie.forumalgerie.net
 
من تجاهل الشخص إلى مناهضة الكائن تحولات في الرؤية الفلسفية المغربية
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» الجمعية الفلسفية المغربية
» مجلة مقاربات المغربية
» الجمعية الفلسفية التطوانية
» الجمعية الفلسفية المصرية
» المؤتمر الثاني والعشرين للجمعية الفلسفية المصرية "الفلسفة و الثورة"

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
اللقاء الفلسفي :: الأروقة الفلسفية :: نصوص منتقاة-
انتقل الى: